نيكي الياباني يتجاوز 50 ألف نقطة للمرة الأولى: زخم عالمي ورسالة اقتصادية جديدة من طوكيو
• التفاؤل بالتقدم في الإطار التجاري بين الولايات المتحدة والصين يقلّل مخاوف الحرب التجارية ويعيد شهية المخاطرة في آسيا.
• رهان على سياسة تحفيز داخلي قوي من حكومة ساناي تاكايشي، ورسالة “اقتصاد بضغط مرتفع” إلى واشنطن.
• وول ستريت عند قمم تاريخية بدعم تباطؤ التضخم وتوقع خفض جديد للفائدة الأميركية.
• المستثمرون يراقبون لقاء تاكايشي وترامب، باعتباره لحظة قد تعيد رسم العلاقة الاقتصادية بين طوكيو وواشنطن.
في جلسة صاخبة وموصوفة بأنها “اختراق تاريخي”، قفز مؤشر الأسهم اليابانية القياسي ليصل إلى مستوى غير مسبوق، إذ نيكي الياباني يتجاوز 50 ألف نقطة للمرة الأولى على الإطلاق. هذا الإنجاز ليس مجرد رقم على الشاشة، بل يحمل دلالات عميقة حول مكانة اليابان الحالية في مشهد المخاطرة العالمي، وعن الطريقة التي تغيّرت بها ديناميكية الاقتصاد الياباني نفسه: من اقتصاد يُنظر إليه لعقود على أنه بطيء، منخفض التضخم، عالق في انكماش هيكلي… إلى قصة مختلفة تمامًا عنوانها النمو المحلي القابل للتسخين.
الارتفاع تجاوز 2% في نيكي، فيما صعد مؤشر “توبكس” الأوسع نطاقًا بنسبة تقارب 1.6%. هذا الزخم ترافق مع موجة شراء واسعة في القطاعات المرتبطة بالتكنولوجيا والصناعات المُصدّرة، لكنه شمل أيضًا البنوك والشركات الدورية المرتبطة بالنشاط المحلي، ما يعني أن الرهان لا يقتصر فقط على ضعف الين أو تحسن شهية المخاطرة الخارجية، بل يمتد إلى فكرة أوسع: اليابان قد تدخل مرحلة دعم مالي ونقدي منسّق لتعزيز الطلب الداخلي.
لماذا الآن؟ مزيج سياسي-اقتصادي غير معتاد في طوكيو
أحد العناصر المحفِّزة كان الإشارات الصادرة من الحكومة اليابانية بقيادة رئيسة الوزراء ساناي تاكايشي. في مذكرة بحثية صادرة صباح الاثنين، قالت مجموعة “كريدي أغريكول CIB” إن الرسالة التي يُتوقَّع أن تنقلها تاكايشي إلى واشنطن تقوم على تعهّد صريح بتوسيع الطلب المحلي عبر ما تسميه “اقتصاد الضغط المرتفع”؛ أي دفع الاقتصاد الياباني للعمل فوق طاقته الاعتيادية لفترة طويلة بهدف كسر دوامة الانكماش السعري المزمن، ورفع الأجور، وتحريك الاستهلاك الخاص.
هذه الصيغة ليست مجرد شعار سياسي. إذا نفّذت طوكيو حزمة تحفيز داخلي عميقة، فهذا يعني مزيدًا من الإنفاق العام، تشجيع الاستثمار الخاص، وتسهيل الشروط الائتمانية للشركات والمستهلكين. وبحسب محللي البنك، مثل هذا التوسّع يمكن أن “يخرج اليابان تمامًا من حالة الركود الانكماشي الهيكلي”، وهو التعبير الذي ظل يلاحق الاقتصاد الياباني منذ تسعينيات القرن الماضي.
الأهم بالنسبة لواشنطن: إذا ازداد الطلب المحلي الياباني، فقد تستورد طوكيو المزيد من السلع الأميركية، ما قد يساعد في تقليص العجز التجاري الأميركي مع اليابان. هذه النقطة حساسة سياسيًا لأن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، تاريخيًا، تولي اهتمامًا كبيرًا لميزان التجارة الثنائي. وبكلمات أخرى، طوكيو تعرض على واشنطن معادلة “نربّي الطلب الداخلي… فنخفف الضغط على الميزان التجاري معكم”.
لقاء تاكايشي وترامب: سوق الأسهم اليابانية تسعّر السياسة مسبقًا
الدعم المعنوي في طوكيو لا يتأتّى من الداخل فقط. من المقرر أن تلتقي ساناي تاكايشي الرئيس الأميركي دونالد ترامب هذا الأسبوع خلال زيارته إلى اليابان. بالنسبة للمستثمرين، هذا اللقاء ليس بروتوكوليًا؛ بل يُنظر إليه كإشارة مبكرة إلى شكل العلاقة الاقتصادية بين رابع أكبر اقتصاد في العالم (اليابان) وأكبر اقتصاد في العالم (الولايات المتحدة) في المرحلة المقبلة.
بورصة طوكيو تتصرف وكأن اللقاء سيخرج بشيء يشبه “تفاهم استراتيجي”: تهدئة تجارية أوسع بين واشنطن وبكين، وترتيب خاص بين واشنطن وطوكيو يركّز على تبادل تكنولوجي واستثماري لا يصطدم بقيود الأمن القومي الأميركية. هذا السيناريو – حتى قبل أن يحدث رسميًا – يُسعَّر في السوق الآن.
بمعنى آخر، الرسالة التي تقرأها الأموال العالمية هي: إذا كانت طوكيو قادرة على لعب دور “شريك صناعي موثوق لأميركا” في سلاسل التوريد الحساسة (الرقائق، البطاريات، المواد المتقدمة)، وفي الوقت نفسه تُبقي قنواتها التجارية مفتوحة مع الصين وآسيا، فهذا يجعل الأسهم اليابانية قصة استثمار جيوسياسية وليست مجرد رهـان دوري على ضعف الين.
هدنة أميركية-صينية محتملة ترفع الأصول الآسيوية كلها
العامل الثاني وراء موجة الشراء كان التفاؤل بالمحادثات التجارية بين الولايات المتحدة والصين. وفق تقارير صدرت مطلع الأسبوع، توصّل كبار المفاوضين التجاريين من البلدين إلى إطار مبدئي يغطي أكثر من ملف حساس واحد: الرسوم الجمركية، صادرات المعادن الأرضية النادرة، والمشتريات الزراعية، وتحديدًا فول الصويا.
وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت لمح إلى أن الرسوم الجمركية البالغة 100% التي لوّح بها ترامب على الواردات الصينية “أُزيلت فعليًا من الطاولة”. في المقابل، تتعهد بكين – بحسب التسريبات – بمشتريات سلعية ضخمة من الولايات المتحدة، وتخفيف لهجة القيود على المعادن الحيوية لصناعة التكنولوجيا، مقابل قبول واشنطن الإبقاء على ضوابط التصدير الحالية بدل تشديدها أكثر.
هذه الصيغة توصف في الأسواق بأنها “هدنة تجارية عملية”: لا أحد يعلن اتفاقًا نهائيًا ولا أحد يلوّح بحرب جديدة. هذا وحده كان كافيًا لرفع شهية المخاطرة في آسيا. في كوريا الجنوبية، قفز مؤشر “كوسبي” بأكثر من 2% متجاوزًا مستوى 4000 نقطة للمرة الأولى تاريخيًا، فيما واصل مؤشر الشركات الصغيرة “كوسداك” الصعود بأكثر من 1%. شركات الترفيه والتكنولوجيا الحيوية قادت المكاسب، وبشكل لافت، قفز سهم وكالة “هايب” بنحو 10% بعد تقارير عن خطة جولة عالمية ضخمة لفرقة “بي تي إس” تشمل نحو 65 مدينة، نصفها تقريبًا في أميركا الشمالية. هذه التفاصيل تعكس كيف تتقاطع الشهية الاستهلاكية الأميركية مع عوائد الصناعات الثقافية الكورية، وتعيد ضخ سيولة في أسهم الترفيه.
الصورة لم تقتصر على شمال آسيا. في هونغ كونغ ارتفع مؤشر “هانغ سنغ” بما يفوق 1%، وفي البرّ الرئيسي الصيني حقق مؤشر “سي إس آي 300” مكاسب قريبة من 0.8%. وحتى سيدني استفادت: المؤشر القياسي الأسترالي “إيه إس إكس/إس أند بي 200” كان على ارتفاع يفوق نصف النقطة المئوية.
وول ستريت عند قمم تاريخية: مصدر عدوى إيجابية لآسيا
الارتفاع الياباني اليوم لا يمكن فصله عن السياق الأميركي. جلسة الجمعة في نيويورك كانت إشارة نفسية قوية للأسواق العالمية: ثلاثة مؤشرات أميركية رئيسية تسجل إغلاقات تاريخية معًا.
مؤشر “داو جونز الصناعي” ارتفع بنحو 472 نقطة تقريبًا (+1.01%) ليُغلق فوق مستوى 47 ألف نقطة لأول مرة في تاريخه، فيما صعد “ستاندرد أند بورز 500” قرابة 0.8% حتى لامس 6,791 نقطة تقريبًا، وارتفع “ناسداك المركب” بنحو 1.15% ليقترب من 23,205 نقاط. هذه الأرقام تقول للمستثمر الآسيوي ببساطة: ما زال المزاج العالمي “خطر-مفضل” (risk-on)، والرهان على شركات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والبنية التحتية الرقمية لم يُكسر بعد.
العامل المحوري خلف هذا المزاج هو تباطؤ التضخم الأميركي. بيانات الأسعار الأخيرة أظهرت ضغوطًا سعرية معتدلة نسبيًا، ما يعزز الرهان بأن مجلس الاحتياطي الفدرالي (البنك المركزي الأميركي) ما زال في مسار خفض الفائدة، وليس فقط تجميدها. بالنسبة لأسواق الأسهم العالمية، خفض الفائدة يعني تكلفة تمويل أقل، دعمًا لتقييمات أسهم النمو، وتبريرًا للسعر المرتفع نسبيًا للمخاطر.
عندما تتقاطع هذه الخلفية الأميركية مع وعد ياباني بتحفيز داخلي، وتخفيف التوتر التجاري الأميركي-الصيني، تكون النتيجة منطقية: تدفق سيولة أجنبية إلى الأسهم اليابانية، وتاريخ جديد لنيكي.
هل هذا اختراق مستدام أم قمة مؤقتة؟
سؤال المستثمر الآن ليس فقط لماذا نيكي الياباني يتجاوز 50 ألف نقطة، بل هل يمكن للمؤشر الدفاع عن هذه المستويات أو حتى البناء عليها. هناك ثلاثة محركات رئيسية ستحدد الإجابة في الأسابيع المقبلة:
1. المسار الفعلي لسياسة تاكايشي الاقتصادية
إذا تحوّلت الوعود بخلق “اقتصاد عالي الضغط” إلى موازنة تحفيز ضخمة، ورفع منسق للأجور، وحوافز ضريبية للاستثمار الرأسمالي داخل اليابان، فهذا يغيّر السرد التاريخي لاقتصاد طوكيو بالكامل. أما إذا بقيت الإشارات سياسية أكثر من كونها مالية، قد يهدأ الحماس سريعًا.
2. علاقة طوكيو بواشنطن في ملف التكنولوجيا
اليابان لاعب محوري في سلاسل توريد أشباه الموصلات والمعدات الصناعية الدقيقة. أي تفاهم استراتيجي مع واشنطن يمكن أن يمنح الشركات اليابانية وضع “المورّد الموثوق” ويُقفل الباب أمام المنافسين في الصين أو أوروبا في بعض القطاعات. هذا يعني علاوات تقييم أعلى لهذه الشركات في البورصة.
3. توقّعات الفدرالي الأميركي
الأسواق الآسيوية الآن مبنية على فرضية أن الفدرالي سيواصل الخفض التدريجي للفائدة. لو تغيّر هذا التصور فجأة – مثلًا إذا عاد التضخم الأميركي للارتفاع أو لوح الفدرالي بنبرة متشددة – فإن شهية المخاطرة العالمية قد تتراجع، ما يضغط على الأسهم عالية الحساسية للتقييم مثل شركات التكنولوجيا اليابانية.
لماذا يهم هذا عربيًا؟
بالنسبة للمستثمر العربي، وبالأخص الصناديق التي تبحث عن التنويع القطاعي والجغرافي بعيدًا عن المخاطر التقليدية في أوروبا والولايات المتحدة، اليابان عادت إلى الطاولة. السوق اليابانية الآن ليست فقط قصة “ين ضعيف وصدّر أكثر”، بل تحولت إلى قصة “طلب محلي يُسخَّن عمدًا” و”دور جيوسياسي في مفاوضة واشنطن وبكين”.
هذه النقطة مهمة للمستثمر المؤسسي في الخليج مثلًا، لأنها تفتح نافذة على استراتيجيات استثمار في قطاعات محددة: أشباه الموصلات، الروبوتات الصناعية، الأتمتة في سلاسل التوريد، البنية التحتية للطاقة المتقدّمة، وحتى الترفيه الآسيوي العابر للحدود (نموذج “هايب” و”بي تي إس” كمثال على تصدير الثقافة كأصل مالي قابل للتسعير).
الخلاصة: تجاوز نيكي لحاجز 50 ألف نقطة ليس مجرد إنجاز فني في الرسم البياني، بل إشارة إلى إعادة تسعير اليابان نفسها كلاعب محوري في اقتصاد المخاطرة العالمي، قبل أيام من لقاء مباشر بين رئيسة الوزراء ساناي تاكايشي والرئيس الأميركي دونالد ترامب، وفي لحظة حساسة من مسار الفدرالي الأميركي.
لماذا يُعتبر تجاوز مؤشر نيكي مستوى 50 ألف نقطة حدثًا تاريخيًا؟
لأن هذه هي المرة الأولى التي يصل فيها المؤشر القياسي في بورصة طوكيو إلى هذا المستوى، ما يعكس إعادة تقييم شاملة للاقتصاد الياباني ودوره في سلاسل التوريد العالمية، وتدفق سيولة عالمية تبحث عن نمو خارج الولايات المتحدة وأوروبا.
ما علاقة لقاء ساناي تاكايشي ودونالد ترامب بمكاسب السوق اليابانية؟
الأسواق تتوقع أن تستخدم تاكايشي زيارة ترامب لإرسال رسالة مزدوجة: اليابان ستدعم الطلب المحلي وتستورد المزيد من السلع الأميركية، مقابل علاقة أكثر سلاسة تجاريًا وتكنولوجيًا مع واشنطن. المستثمرون يسعّرون هذه الفكرة مسبقًا.
هل صعود نيكي مرتبط فقط بالين الضعيف؟
ضعف العملة يساعد أرباح المصدّرين اليابانيين، لكنه لم يكن المحرك الوحيد هذه المرة. الارتفاع شمل أسهم البنوك والشركات الاستهلاكية المحلية، وهو ما يلمّح إلى رهان على تحفيز داخلي وليس فقط على تنافسية الصادرات.
كيف يؤثر الفدرالي الأميركي على الأسهم الآسيوية؟
تباطؤ التضخم في الولايات المتحدة رفع التوقعات بمزيد من التيسير النقدي عبر خفض الفائدة. الأموال العالمية تتحرك سريعًا نحو الأصول ذات النمو المرتفع. جزء من هذه الأموال يتجه الآن إلى آسيا، خاصة اليابان وكوريا.
هل يمكن أن نشهد تصحيحًا بعد هذا الصعود؟
نعم. أي مفاجأة سلبية من الفدرالي، أو تعثر في مسار الهدنة التجارية الأميركية-الصينية، أو خيبة أمل من تفاصيل خطة التحفيز اليابانية، قد يدفع إلى جني أرباح سريع بعد هذا الاختراق التاريخي.






















