منظمة التجارة العالمية ترفع توقعاتها للتجارة العالمية في 2025… لكن آفاق العام المقبل تبدو أقل إشراقًا
التجارة العالمية 2025 تستمد زخمها من موجة إنفاق على منتجات الذكاء الاصطناعي وسلاسلها الرقمية، بينما تضغط الرسوم الواسعة وعدم اليقين السياسي على توقعات
لماذا عادت التجارة العالمية إلى المسار الصاعد في 2025؟
على خلاف موجات الاضطراب التي ميّزت الأعوام الماضية، يظهر عام 2025 بملامح تعافٍ حقيقي في أحجام التجارة. تقول المنظمة إن النصف الأول من العام شهد نموًا سنويًا يقارب 4.9% في الأحجام، مع بروز عاملين رئيسيين. الأول، التعجيل بالاستيراد إلى الولايات المتحدة قبل تشديد الرسوم، ما خلق طلبًا أماميًا عوّض جوانب من الضعف في مناطق أخرى. والثاني، الطفرة الاستثمارية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، حيث أسهم الإنفاق على الرقائق، والذواكر، والغازات المتخصصة، ومعدات الشبكات والسحابية، بنحو نصف الزيادة في التجارة العالمية خلال النصف الأول من 2025 بحسب تقديرات المنظمة.
أثر الذكاء الاصطناعي: من السيليكون الخام إلى مراكز البيانات
تؤكد البيانات أنّ سلسلة القيمة الرقمية بأكملها تحوّلت إلى قاطرة تبادلات عابرة للحدود. يبدأ ذلك من المواد الأولية عالية النقاوة، مرورًا بالتصنيع المتقدم لأشباه الموصلات، وصولًا إلى الأجهزة التي تغذي الحوسبة السحابية، والمنصات، ونماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية. وتوزّع الزخم جغرافيًا على نحو واضح: الولايات المتحدة ساهمت بما يقرب من خمس النمو في تجارة تلك المنتجات، فيما استحوذت آسيا على ما يناهز الثلثين بفضل قدرات تصنيع عميقة وسلاسل توريد مرِنة نسبيًا، الأمر الذي أعاد تموضع آسيا–المحيط الهادئ كمركز «الالتقاط والتجميع والتوسُّع» في دورة التكنولوجيا الحالية.
رسوم جمركية واسعة ونوافذ زمنية ضيقة
في المقابل، تتراكم آثار الرسوم الجمركية الواسعة التي شكّلت أبرز متغيرات 2025، مع تطبيق رسوم أساسية بنسبة 10% على صادرات دول حليفة مثل المملكة المتحدة، واتساع التغطية السلعية للرسوم على منتجات المعادن والمركبات والمكوّنات الإلكترونية. على المدى القصير، دفعت هذه السياسات المستوردين إلى تقديم الطلبات قبل زيادات إضافية محتملة، ما رفع الأحجام مؤقتًا. لكن على المدى المتوسط، تُحذّر المنظمة من أنّ تَحوّل الرسوم إلى إطار دائم يعيد صياغة قرارات الاستثمار، ويزيد التكاليف الحدّية، ويُضعِف المكاسب الكلاسيكية من التخصّص وتقسيم العمل الدولي.
التجارة العالمية 2025: من الزخم إلى نقطة الانعطاف
موسم 2025 يبدو، إذن، كمرحلة انتقالية تسير على حافة نقطة انعطاف. من جهة، هناك محركات إيجابية: دورة تقنية عريضة يقودها الذكاء الاصطناعي، وانحسار التضخم، ومرونة سوق العمل، وترابط متزايد بين الاقتصادات الناشئة خارج مراكز النفوذ التقليدية. ومن جهة أخرى، تتكثف رياح معاكسة: أسعار فائدة حقيقية ما زالت مرتفعة قياسًا بالسنوات الذهبية، واحتمالات تباطؤ الطلب النهائي، وتفكّك تدريجي لبعض سلاسل القيمة تحت ضغط الحسابات الأمنية والسياسية والرسوم.
ماذا عن 2026؟ لماذا الصورة أقل إشراقًا؟
ترى منظمة التجارة العالمية أنّ عام 2026 سيتحمّل الأثر الكامل للرسوم المرتفعة والقيود الإدارية، إلى جانب انكشاف مزيد من الاقتصادات والقطاعات على حالة عدم اليقين السياسي. يتقاطع ذلك مع إشارات وهن في الاقتصادات المتقدمة: تراجع ثقة المستهلكين والشركات، وبطء إضافي في نمو الدخل الحقيقي، وميل الشركات لتأجيل الإنفاق الرأسمالي خارج القطاعات الرقمية المولِّدة للنقد. ويميل ميزان المخاطر نحو السيناريو الحذر، مع بقاء احتمالات الصدمات الجيوسياسية قائمة، وتزايد الحساسية لأي مفاجآت في الطاقة أو الغذاء.
الخدمات: قوة كامنة تتباطأ
على الرغم من أنّ تجارة الخدمات لا تتعرض مباشرة للرسوم الجمركية، إلا أنها تتأثر عبر القنوات الصناعية والإنفاق الاستثماري وسفر الأعمال. تتوقع المنظمة تباطؤ نمو صادرات الخدمات من 6.8% في 2024 إلى 4.6% في 2025 و4.4% في 2026. ويعكس ذلك تهدئةً طبيعية بعد «تعافي ما بعد الجائحة» في قطاعات السياحة والنقل، إلى جانب انتقال الطلب من الخدمات التقليدية إلى خدمات رقمية عالية الكثافة الرأسمالية، ما يعني حواجز دخول أعلى وتأثيرًا أقل فورية على العمالة والدخل في الاقتصادات التي تعتمد على الخدمات منخفضة القيمة المضافة.
الولايات المتحدة وآسيا وأوروبا: خرائط متحركة
في الولايات المتحدة، استبق المستوردون جولات الرسوم بموجة طلبات كثيفة خلال النصف الأول من 2025، ما وفّر دعامة مؤقتة لأرقام التجارة. لكن استمرار الرسوم الأساسية وامتدادها إلى مدخلات صناعية حساسة قد يفرض على الشركات إعادة ضبط سلاسل التوريد، وربما توطين بعض الروابط الحساسة ضمن الحدود الأمريكية، وهي عملية مكلفة وطويلة. في آسيا، يتواصل التفوق التنافسي في التقنيات المُمكِّنة للذكاء الاصطناعي، من الرقائق إلى التجميع، مدعومًا بسياسات صناعية نشطة وبنية لوجستية متكاملة. أما أوروبا، فتواجه مفاضلة صعبة بين حماية القاعدة الصناعية والالتزام بأجندة انتقال طاقي صارمة، مع ضغط هوامش الربحية وتباين أداء الدول بين الشمال والجنوب.
الأسواق الناشئة: روابط جنوب–جنوب تتعمّق
تسجّل المنظمة تناميًا في حجم التجارة بين الاقتصادات الناشئة نفسها، وهو اتجاه قد يخفف جزئيًا من حدة الاستقطاب التجاري. فمن أميركا اللاتينية إلى إفريقيا وآسيا، تُبنى ممرات لوجستية جديدة وتتوسع الاتفاقات الثنائية والإقليمية بعيدًا عن المراكز التقليدية. هذه الروابط تعزّز تنويع المخاطر، وتخلق طلبًا متبادلاً على سلع وسيطة ورأسمالية، خصوصًا المرتبطة بالتحول الرقمي والطاقة النظيفة.
القطاعات الرابحة والمتضررة في التجارة العالمية 2025
إلى جانب سلسلة الذكاء الاصطناعي، تستفيد قطاعات معدات الاتصالات، والبنية التحتية السحابية، ومعدّات الطاقة الموفّرة من موجات إحلال تقني ورقمنة أوسع للأعمال. في المقابل، تبدو القطاعات ذات الحساسية العالية للرسوم—مثل بعض معادن الأساس والسيارات ومكوّناتها—أكثر عرضة لإعادة توجيه التدفقات التجارية أو نقل مواقع الإنتاج، ما يخلق تجزؤًا أعلى في الخريطة الصناعية، ويضغط على الدول التي تعتمد على هوامش تنافسية ضيقة في سلاسل توريد بعينها.
التجارة والخدمات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي: مكاسب مشروطة
إذا استمرت موجة الاستثمار في الذكاء الاصطناعي بوتيرتها الراهنة، فقد تحافظ التجارة العالمية 2025 على زخْم أعلى من متوسط ما بعد الجائحة. لكن هذه المكاسب مشروطة بتوفر مستلزمات حرجة—من الغازات المتخصصة والمواد الكيميائية الدقيقة إلى معدات الطباعة الحجرية—وبانسيابية عبور الحدود. أي اختناقات في هذه الحلقات قد تنتقل بسرعة إلى بقية السلسلة، وتُحدِث تقلبات في الأسعار والأحجام.
ماذا يعني ذلك للمستثمرين وصنّاع السياسات؟
بالنسبة للمستثمرين، تشير لوحة 2025 إلى فرصة انتقائية في السلاسل المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، والبنية الرقمية، والأمن السيبراني، والخدمات اللوجستية عالية الكفاءة. في المقابل، تتطلب القطاعات المعرضة للرسوم أو الحساسة للطاقة إدارة مخاطر أكثر تشددًا وتفضيل نماذج أعمال مرنة جغرافيًا. أما لدى صناع السياسات، فتُبرز المرحلة أهمية أُطر متعددة الأطراف قابلة للتكيّف، خاصة في مجالات توحيد المعايير التقنية وتيسير العبور الجمركي للمدخلات الحساسة وتأمين شفافية السلاسل.
رسالة منظمة التجارة: الصمود لا يكفي
قالت المديرة العامة للمنظمة، نغوزي أوكونجو-إيويالا، إن صمود التجارة في 2025 يستند إلى استقرار الإطار متعدد الأطراف القائم على القواعد، وإلى إمكانات النمو التي يوفرها الذكاء الاصطناعي، وإلى ازدياد التجارة بين بقية دول العالم، خاصة بين الاقتصادات الناشئة. لكنها شددت على أن الركون إلى هذا الاستقرار ليس خيارًا؛ فالعالم يمر باضطرابات تستدعي إعادة تصوّر وظيفة التجارة والتعاون من أجل أساس أقوى يضمن ازدهارًا أشمل.
سيناريوهات 2026: بين «هبوط سلس» و«انكماش تجارة»
في السيناريو المتفائل، تتراجع حدة الرسوم تدريجيًا أو يُعاد توجيهها بما يحدّ من أثرها على المدخلات الحرجة، وتتوسع اتفاقات المسارات السريعة للسلع الرقمية، ما يمنح 2026 مناعة جزئية ويُبقي النمو فوق 1%. في السيناريو المرجّح، تظل الرسوم مرتفعة ويكتمل انتقال أثرها، فيما تتراجع ثقة الشركات وتتباطأ الطلبيات، ما يهبط بالنمو إلى محيط 0.5% كما ترجّح المنظمة. أما السيناريو المتشائم، فيجمع بين تشدد مالي أطول من المتوقع، واضطرابات جيوسياسية في ممرات رئيسية، وقيود إضافية على التقنيات الحساسة، ما قد يضغط التجارة إلى حافة الانكماش.
الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: أين الفرصة؟
تُتيح دورة الذكاء الاصطناعي نافذة للدول التي تستطيع جذب استثمارات في مراكز البيانات والطاقة منخفضة الكربون والمحتوى الرقمي العربي، إلى جانب تطوير مناطق حرة تركّز على الخدمات العابرة للحدود مثل الحوسبة السحابية والدعم التقني. كما يمكن لمنصات التجارة بين الجنوب والجنوب أن تعزّز دور الموانئ وممرات العبور في الخليج وشرق أفريقيا والبحر المتوسط، شريطة مواءمة تشريعات البيانات والخصوصية وحماية الملكية الفكرية مع شركاء متعدّدين.
2025 عام زخم مصحوب بالحذر… و2026 اختبار للنظام التجاري
تُظهر التجارة العالمية 2025 قدرة ملحوظة على الصمود والابتكار، تقودها موجة تقنية كبيرة وتكيّف سريع في السلاسل، لكنّ اختبار 2026 سيكشف مدى قابلية النظام التجاري لتحمّل رسوم مرتفعة لفترة طويلة، ومدى استعداد الاقتصادات لتعاون عملي يخفّف التفكك ويضمن انسيابية للمدخلات الحرجة. في الأثناء، يبقى التفاؤل مشروطًا بإدارة حكيمة للمخاطر، وبسياسات تسهّل انتقال التكنولوجيا وتدعم تنافسية الصناعات دون الانزلاق إلى سباق دعم مُكلِف وغير فعّال.






















