مخاطر الائتمان الأميركية تهز معنويات أسواق المال العالمية
امتدت مخاطر الائتمان الأميركية إلى أسواق المال العالمية يوم الجمعة، بعد سلسلة من التطورات السلبية في البنوك الإقليمية بالولايات المتحدة، ما أعاد للأذهان أجواء الاضطراب التي عاشتها الأسواق قبل عامين خلال أزمة “سيليكون فالي بنك”. وقد تسبب ذلك في موجة بيع واسعة للأسهم المالية، مع تزايد القلق من احتمال امتداد الأزمة إلى مؤسسات كبرى داخل النظام المالي الأميركي والعالمي.
الأسواق تحت ضغط الخوف من عدوى الائتمان
شهدت وول ستريت افتتاحاً متقلباً يوم الجمعة، إذ بدت المؤشرات الرئيسية غير قادرة على الحفاظ على مكاسبها السابقة، بينما فضّل المستثمرون تجنّب المخاطر وسط تزايد الإشارات إلى ضعف جودة الائتمان في عدد من البنوك الإقليمية. وقد ألقت هذه التطورات بظلالها على الأسواق الأوروبية والآسيوية، لتشهد جميعها تراجعاً واضحاً في أسهم القطاع المالي.
ويقول المحللون إن القلق هذه المرة لا يرتبط فقط بأداء بنك أو اثنين، بل يعكس خوفاً أوسع من أن تكون مخاطر الائتمان الأميركية قد بدأت في الانتشار بشكل غير متوقع، خاصة بعد ارتفاع حالات التعثر في قطاعي السيارات والعقارات التجارية داخل الولايات المتحدة. هذا ما جعل المتداولين يراقبون عن كثب أي بوادر ضغط على ميزانيات البنوك.
خلفية الأزمة: دروس لم تُستوعب بعد
تعود جذور الأزمة الحالية إلى السياسات الائتمانية التوسعية التي اتبعتها البنوك الأميركية في السنوات الماضية عندما كانت أسعار الفائدة منخفضة. ومع قيام مجلس الاحتياطي الفدرالي برفع الفائدة إلى أعلى مستوياتها منذ عقدين، بدأت جودة الأصول في التدهور، خاصة في محافظ القروض طويلة الأجل.
وعندما تعثّر اثنان من المقترضين الكبار في قطاع السيارات مؤخراً، ارتفعت المخاوف من احتمال وقوع خسائر إضافية لدى المقرضين، وهو ما أعاد إلى الأذهان الانهيار المفاجئ لـ«بنك سيليكون فالي» في 2023، حين أدت خسائر السندات إلى أزمة ثقة واسعة في القطاع المصرفي الأميركي.
تأثيرات عالمية تمتد عبر القارات
لم تقتصر الصدمة على الأسواق الأميركية فحسب، بل امتدت إلى آسيا وأوروبا. ففي طوكيو، تراجعت أسهم البنوك اليابانية وشركات التأمين مع تصاعد القلق من انكشافها على أدوات الدين الأميركية. أما في أوروبا، فقد هبط مؤشر البنوك الأوروبية بنسبة 3%، بينما خسر سهما دويتشه بنك وباركليز أكثر من 6% لكل منهما، وتراجع سهم سوسيتيه جنرال الفرنسي بنسبة 4.6%.
ويقول جيمس روسيتر، رئيس الاقتصاد الكلي العالمي في TD Securities: “نرى عمليات بيع متتابعة في أسهم البنوك خلال الليل في الولايات المتحدة، ثم تنتقل العدوى إلى آسيا، وبعدها إلى أوروبا. هذه السلسلة تُظهر هشاشة المزاج العام في الأسواق العالمية”.
ردود الفعل الرسمية: تهدئة لا تطمئن الأسواق
سعى البيت الأبيض إلى تهدئة المخاوف، حيث قال المستشار الاقتصادي كيفن هاسيت إن البنوك الأميركية تمتلك احتياطيات كافية، وإنه متفائل بقدرتها على امتصاص الصدمات الائتمانية. كما أشار إلى أن وزير الخزانة سكوت بيسنت وعضوة مجلس الاحتياطي الفدرالي ميشيل بومان يتابعان الأوضاع عن كثب وينسّقان الإجراءات التنظيمية اللازمة.
غير أن تصريحات المسؤولين لم تنجح في تهدئة الأسواق، إذ يرى المستثمرون أن الثقة في النظام المالي لا تُبنى بالتصريحات، بل بالإفصاحات والشفافية حول حجم الانكشاف الفعلي للبنوك. وقال روس مولد، مدير الاستثمار في “إيه جيه بيل”، إن “الجيوب المتوترة داخل القطاع المصرفي الأميركي ما زالت تشكل مصدر قلق حقيقي، خصوصاً البنوك الإقليمية التي تواجه خسائر غير متوقعة”.
هل الأزمة ممنهجة أم حالات فردية؟
يرى عدد من المحللين أن التطورات الأخيرة لا تمثل بعد أزمة ممنهجة، بل هي نتيجة طبيعية لدورة تشديد ائتماني طويلة أدت إلى تصفية تدريجية للمراكز الضعيفة. ومع ذلك، فإن هشاشة الثقة بين المؤسسات المالية تبقى عاملاً خطيراً يمكن أن يُسرّع من أي اضطراب مستقبلي.
وتشير بيانات وكالة «ستاندرد آند بورز» إلى أن نسبة القروض المتعثرة لدى البنوك الإقليمية الأميركية ارتفعت إلى 3.2% في الربع الثالث من 2025، مقارنة بـ1.9% فقط قبل عام. كما ارتفعت نسب المخصصات المالية لتغطية الخسائر المحتملة بنحو 40% على أساس سنوي.
الأسهم المالية تتراجع رغم الأرباح القوية
ورغم أن موسم نتائج الأعمال للربع الثالث أظهر نمواً جيداً في أرباح بعض البنوك الكبرى مثل “جي بي مورغان” و”سيتي غروب”، فإن ذلك لم يكن كافياً لدعم المعنويات. فقد انخفض مؤشر KBW للبنوك، الذي يتتبع أداء البنوك الأميركية الكبرى، بنسبة 0.4% يوم الجمعة، بينما شهدت أسهم البنوك الإقليمية تقلبات حادة.
ويرى محللون أن المستثمرين باتوا يركّزون على جودة الأصول أكثر من الأرباح نفسها، إذ يعتبرون أن الأرقام المالية لا تعكس المخاطر الكامنة في محافظ القروض والسندات طويلة الأجل التي تراجعت قيمتها السوقية بشدة منذ 2022.
الذكاء الاصطناعي والأسواق المالية: فقاعة جديدة؟
في الوقت نفسه، تتعرض أسواق الأسهم العالمية لضغوط مزدوجة بين مخاوف الائتمان وحالة الارتفاع المفرط لأسهم التكنولوجيا المرتبطة بالذكاء الاصطناعي. ويرى بعض المحللين أن فقاعة “الذكاء الاصطناعي” الحالية قد تتفاقم في ظل ضعف السيولة وخروج رؤوس الأموال من القطاع المالي إلى الأسهم التقنية.
وحذّر محللو “بنك أوف أمريكا” في تقرير حديث من أن مزيج القلق الائتماني و”جنون الذكاء الاصطناعي” يمكن أن يخلق بيئة مشابهة لما قبل فقاعة الإنترنت عام 2000، حيث انفصلت التقييمات عن الأساسيات الاقتصادية.
المستقبل: توازن هش بين المخاطرة والفرص
يرى الاقتصاديون أن الاقتصاد الأميركي ما زال متيناً من حيث النمو والتوظيف، لكن أي تشديد إضافي في شروط الائتمان قد يدفع الشركات الصغيرة والمتوسطة إلى حافة الركود. وتشير توقعات “غولدمان ساكس” إلى أن احتمالات الركود في الولايات المتحدة خلال عام 2026 ارتفعت إلى 25% مقارنة بـ15% قبل شهرين.
وفي المقابل، يعتقد بعض المحللين أن هذه الاضطرابات قد تخلق فرصاً استثمارية للمستثمرين ذوي الأفق الطويل، خصوصاً في أسهم البنوك ذات المراكز المالية القوية والتي تمتلك نسب سيولة مرتفعة وقدرة على امتصاص الصدمات.
الذهب والدولار في قلب الحدث
وفي خضم التوترات الائتمانية، صعدت أسعار الذهب مجدداً لتتجاوز 4,150 دولاراً للأونصة، بينما تراجع مؤشر الدولار الأميركي بنسبة 0.3% أمام سلة العملات الرئيسية، إذ لجأ المستثمرون إلى الملاذات الآمنة للتحوّط من المخاطر المحتملة في الأسواق المالية.
ويرى خبراء أن استمرار مخاطر الائتمان الأميركية سيدعم الطلب على الذهب كأداة تحوّط، خصوصاً في حال اتجهت السياسة النقدية نحو خفض الفائدة خلال النصف الأول من 2026، وهو ما قد يعيد الزخم إلى أسواق السلع.
تبدو مخاطر الائتمان الأميركية هذه المرة أكثر تعقيداً من مجرد اضطراب مصرفي عابر، إذ تمثل انعكاساً لمزيج من التحديات: ارتفاع الفائدة، وتباطؤ النمو، وتراجع جودة القروض، وتآكل الثقة في الأسواق المالية. وبينما تحاول السلطات الأميركية طمأنة المستثمرين، يبقى القلق قائماً بأن أي خطأ في التقدير قد يشعل أزمة جديدة تمتد آثارها إلى كل ركن في النظام المالي العالمي.
ما المقصود بمخاطر الائتمان الأميركية؟
هي احتمالات تعثر المقترضين الأميركيين، سواء كانوا أفراداً أو شركات، في سداد التزاماتهم المالية، مما قد يؤدي إلى خسائر في البنوك والمؤسسات المقرضة.
هل يمكن أن تتطور الأزمة إلى أزمة مالية عالمية؟
حتى الآن لا توجد مؤشرات على أزمة ممنهجة، لكن استمرار ارتفاع حالات التعثر قد يؤدي إلى فقدان الثقة في الأسواق، مما يزيد احتمالات انتقال العدوى إلى الخارج.
كيف تؤثر هذه المخاطر على أسعار الذهب والدولار؟
عادة ما تدفع مخاطر الائتمان المستثمرين نحو الأصول الآمنة مثل الذهب، ما يرفع سعره، في حين يتراجع الدولار نتيجة زيادة التوقعات بخفض الفائدة.
هل سيستفيد المستثمرون من الأزمة؟
المستثمرون الذين يمتلكون سيولة وقدرة على الصبر يمكنهم الاستفادة من فرص شراء بأسعار منخفضة في أسهم البنوك القوية أو الذهب، شريطة إدارة المخاطر بعناية.






















