تراجع مفاجئ في الإنفاق الاستهلاكي بأمريكا خلال مايو… هل بدأ الاقتصاد يشعر بالإرهاق؟
في خطوة لم تكن متوقعة، كشفت البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة التجارة الأميركية أن الإنفاق الاستهلاكي في أمريكا انخفض بشكل طفيف في مايو الماضي، ما أثار حالة من القلق في الأوساط الاقتصادية، خصوصًا أن الاستهلاك يمثل أكثر من ثلثي النشاط الاقتصادي الأميركي.
هذا التراجع – ولو كان بسيطًا – يحمل في طياته إشارات أعمق، تتعلق بمزاج المستهلك الأميركي، ومستقبل النمو في أكبر اقتصاد في العالم، خاصة في ظل استمرار التوترات التجارية وغياب رؤية واضحة لمسار التضخم.
لماذا تراجع الإنفاق رغم قوة سوق العمل؟
بحسب تقرير مكتب التحليل الاقتصادي، انخفض الإنفاق الاستهلاكي بنسبة 0.1% في شهر مايو، بعد ارتفاع بنسبة 0.2% في أبريل. وكان المحللون يتوقعون ارتفاعًا طفيفًا بنسبة 0.1%، لكن الواقع جاء معاكسًا. ويبدو أن أسباب انخفاض الإنفاق الاستهلاكي في أمريكا تشير إلى تغيّرات في ثقة المستهلك.
ما يُثير الاهتمام في هذا التراجع ليس فقط أنه يخالف التوقعات، بل أنه يأتي في وقت يُفترض فيه أن يكون الطلب الاستهلاكي أكثر نشاطًا، خصوصًا مع دخول موسم الصيف ومواصلة انخفاض معدلات البطالة.
لكن هناك تفسير منطقي لهذا الانكماش، يرتبط بشكل مباشر بسياسات الرئيس دونالد ترامب التجارية، لا سيما الرسوم الجمركية الجديدة التي دفعت كثيرًا من الأسر والشركات إلى التسوّق المسبق، تحسبًا لارتفاع الأسعار لاحقًا. والنتيجة؟ تراجع طبيعي في وتيرة الإنفاق بعد أن “استُهلك الطلب المستقبلي” مقدمًا.
هل بدأت آثار الرسوم الجمركية تظهر على الأرض؟
منذ بدء تطبيق الرسوم الجمركية الواسعة في الأشهر الماضية، ازداد الإقبال على شراء السيارات والسلع المعمرة بشكل غير اعتيادي، في محاولة من المستهلكين لتفادي دفع أسعار أعلى في المستقبل.
لكن هذا السلوك – وإن كان مبررًا – أدى إلى تشويه الصورة الحقيقية للاقتصاد. فقد أظهر النشاط الاستهلاكي في الربع الأول من العام أداءً قويًا نسبيًا، إلا أن ذلك جاء نتيجة هذا “السحب المسبق للطلب”، وليس بفعل نمو مستدام، وهذا يرتبط بشكل وثيق بظاهرة الإنفاق الاستهلاكي في أمريكا.
النتيجة كانت واضحة: عجز تجاري ضخم في الربع الأول، تراجع في الناتج المحلي الإجمالي بمعدل سنوي 0.5%، وتباطؤ كبير في إنفاق الأسر، خاصة على الخدمات.
ماذا يعني ذلك لمستقبل الفائدة في أميركا؟
ورغم أن هذه الأرقام قد توحي بأن الفيدرالي الأميركي قد يندفع نحو خفض أسعار الفائدة، إلا أن الواقع أكثر تعقيدًا.
فرئيس الفيدرالي، جيروم باول، أكد أمام الكونغرس هذا الأسبوع أن البنك المركزي يحتاج إلى مزيد من الوقت لتقييم تأثير الرسوم الجمركية على الأسعار، قبل اتخاذ أي قرار بشأن خفض الفائدة.
ويبدو أن الفيدرالي يتبنى حاليًا سياسة “الانتظار والمراقبة”، خاصة أن البيانات الخاصة بالتضخم لا تزال معتدلة نسبيًا، وإن كانت تشير إلى اتجاه تصاعدي تدريجي، مما ينعكس بشكل غير مباشر على الإنفاق الاستهلاكي في أمريكا.
التضخم لا يزال تحت السيطرة… ولكن إلى متى؟
أظهر تقرير الإنفاق الشخصي أن مؤشر أسعار الإنفاق الاستهلاكي (PCE) – وهو المقياس المفضل للفيدرالي لمتابعة التضخم – ارتفع بنسبة 0.1% في مايو، وهو نفس الارتفاع الذي سُجل في أبريل. وعلى أساس سنوي، بلغ معدل التضخم 2.3%، مقارنة بـ2.2% في الشهر السابق.
أما التضخم الأساسي – الذي يستثني مكوني الغذاء والطاقة – فقد ارتفع بنسبة 0.2% في مايو، بعد زيادة 0.1% في أبريل. وعلى مدار 12 شهرًا، وصل إلى 2.7%، وهو أعلى من مستهدف الفيدرالي البالغ 2%، مما يعكس تغيرات في الإنفاق الاستهلاكي داخل أمريكا.
هذه الأرقام تشير إلى أن التضخم ما زال عند مستويات يمكن التعايش معها، لكنها في نفس الوقت تُنذر بأن الارتفاعات قادمة لا محالة، خصوصًا مع نضوب مخزون الشركات من السلع المستوردة قبل فرض الرسوم، وبدء تمرير الزيادات إلى المستهلك النهائي.
كيف يشعر الأميركي العادي في ظل هذه التقلبات؟
بعيدًا عن البيانات والأرقام، يعيش المواطن الأميركي حالة من الترقب والقلق.
أسعار السلع بدأت تتحرك، ولكن الرواتب لا تلحق بنفس الوتيرة.
الأسرة التي كانت تشتري حاجياتها الشهرية دون قلق، باتت اليوم تُراجع كل فاتورة بدقة، وكل ذلك انعكاس لصورة أكبر تتعلق بالإنفاق الاستهلاكي في أمريكا.
وسوق الخدمات – من المطاعم إلى الترفيه – بدأ يشعر بانكماش في الإنفاق، مع تزايد الحذر من المستقبل.
العديد من الأسر تفضّل الآن الادخار بدل الإنفاق، انتظارًا لما ستسفر عنه السياسة النقدية والقرارات الاقتصادية القادمة، خاصة مع اقتراب موسم الانتخابات وارتفاع وتيرة التصريحات السياسية.
ما الذي ينتظرنا في النصف الثاني من العام؟
إذا استمرت وتيرة التباطؤ في الإنفاق، فذلك يعني أن الربع الثاني قد يشهد نموًا هشًا أو شبه منعدم. وهذا ما يُرجّح أن يُبقي الفيدرالي في موقع المتفرّج حتى تتضح الصورة أكثر.
لكن السيناريو الأخطر هو تزامن تراجع الاستهلاك مع ارتفاع تدريجي في التضخم، وهو ما يُعرف اقتصاديًا بـ”الركود التضخمي”، وهو أسوأ ما يمكن أن تواجهه أي حكومة أو بنك مركزي، لأن الأدوات التقليدية تصبح بلا فعالية.
في المقابل، قد يُساهم استقرار أسواق العمل، وعودة النشاط في بعض القطاعات مثل التكنولوجيا والخدمات المالية، في موازنة الصورة ولو جزئيًا، ما لم تتفاقم التوترات التجارية أو تدخل السياسة بقوة على خط الاقتصاد، مما سيؤثر أيضًا على الإنفاق الاستهلاكي في أمريكا.
هل هناك مبرر للقلق؟
رغم أن التراجع في الإنفاق الاستهلاكي في أمريكا خلال مايو لا يُعد كارثيًا بحد ذاته، إلا أنه مؤشر يستحق المراقبة.
لأن الاستهلاك ليس مجرد رقم في تقرير، بل هو تعبير مباشر عن ثقة الناس في مستقبلهم، واستعدادهم لتحمّل المخاطرة، وارتياحهم لوضعهم المالي.
وإذا بدأ الناس في التراجع خطوة إلى الوراء، فهذا يعني أن الاقتصاد نفسه سيتباطأ، وسيتراجع معه الأمل بعودة التعافي الكامل.
إن الاقتصاد لا يُقاس فقط بالناتج المحلي أو معدلات البطالة، بل يُقاس بما يشعر به المواطن في جيبه، وماذا يشتري، وماذا يقرر أن يؤجل.
ولذلك، فإن ما حدث في مايو هو أكثر من مجرد تراجع مؤقت… إنه جرس إنذار مبكر لما قد يكون قادمًا إن لم يتم التدخل بحكمة وتوازن.






















