الهند تقلص وارداتها من النفط الروسي بنسبة 50% بعد محادثات بناءة مع واشنطن
تراجع حاد في الواردات النفطية الروسية إلى الهند
قال مسؤول في البيت الأبيض لوكالة رويترز إن الولايات المتحدة والهند أجرتا محادثات تجارية وطاقوية وصفها بـالبنّاءة، أسفرت عن بدء مصافي التكرير الهندية في تقليص وارداتها من النفط الروسي بنسبة تصل إلى 50%. الخطوة تأتي في إطار ضغوط أميركية مستمرة منذ شهور لتقليص اعتماد نيودلهي على الخام الروسي الذي أصبح مصدرًا رئيسيًا لوارداتها منذ اندلاع الحرب الأوكرانية عام 2022.
ورغم أن الهند حافظت طويلاً على موقف متوازن بين موسكو وواشنطن، فإن هذا الخفض المفاجئ يمثل تحولًا استراتيجيًا قد يؤثر في سوق الطاقة العالمية خلال الربع الأخير من عام 2025، خصوصًا في ظل التوترات السياسية والاقتصادية التي تعصف بالعلاقات بين القوى الكبرى.
تأثير سياسي واقتصادي متبادل بين واشنطن ونيودلهي
المحادثات الأخيرة بين البلدين تناولت ملفات أوسع تتعلق بالتجارة والتكنولوجيا والطاقة، حيث تسعى الولايات المتحدة إلى تعزيز علاقاتها مع الهند كقوة اقتصادية صاعدة في آسيا، وفي الوقت ذاته تحاول تقليص الإيرادات الروسية من صادرات النفط التي تُستخدم لتمويل العمليات العسكرية في أوكرانيا.
وأشار المسؤول الأميركي إلى أن “الهند تتفهم الحاجة إلى تنويع مصادر الطاقة وتدرك أهمية الشفافية في تدفقات النفط“، مضيفًا أن “البيت الأبيض يرحب بخطوات نيودلهي الرامية إلى تقليص الاعتماد على النفط الروسي لصالح موردين آخرين في الشرق الأوسط وأفريقيا وأميركا اللاتينية”.
وبحسب محللين، فإن هذا القرار يعكس أيضًا تزايد الضغوط الغربية على الدول المستوردة للخام الروسي، في ظل تشديد العقوبات على موسكو وتوسيع قائمة الكيانات الخاضعة للقيود المالية.
مصادر هندية: التأثير لم يظهر بعد في البيانات الرسمية
في المقابل، أوضحت مصادر هندية لرويترز أن أثر هذا الخفض لم يظهر بعد في البيانات الرسمية للواردات، مرجحة أن ينعكس في أرقام شهري ديسمبر/كانون الأول ويناير/كانون الثاني المقبلين، إذ إن المصافي كانت قد اشترت بالفعل شحنات للتحميل في نوفمبر، وبعضها سيصل في ديسمبر.
وأضافت المصادر أن الحكومة لم تُصدر أي توجيهات رسمية حتى الآن لشركات التكرير بشأن تقليص الواردات من روسيا، ما يعني أن القرار ما زال في مراحله الأولية ويعتمد بشكل أكبر على التفاهمات غير المعلنة بين الجانبين الأميركي والهندي.
هذا التأخير في ظهور الأثر الفعلي على السوق يعكس التعقيد اللوجستي لسلاسل توريد النفط الخام، إضافة إلى العقود الآجلة التي تُبرم قبل أشهر من التسليم، ما يجعل أي تغيير في الاتجاهات التجارية يستغرق وقتًا قبل أن يظهر في البيانات.
تداعيات القرار على سوق النفط العالمية
خفض واردات الهند من النفط الروسي بنسبة 50% قد يؤدي إلى إعادة رسم خريطة تجارة الطاقة العالمية. فالهند كانت واحدة من أكبر المشترين للخام الروسي المخفّض السعر، ما ساعد موسكو على تجاوز العقوبات الغربية. ومع تراجع الطلب الهندي، قد تضطر روسيا إلى تقديم مزيد من الخصومات للدول الآسيوية الأخرى مثل الصين وتركيا لتصريف إنتاجها.
في المقابل، يتوقع محللون أن ينعكس القرار على أسعار النفط العالمية في الأجل القصير، حيث قد ترتفع أسعار خام برنت مؤقتًا نتيجة المخاوف من نقص الإمدادات، قبل أن تستقر مع دخول إمدادات بديلة من الشرق الأوسط إلى السوق الهندية.
ويرى خبراء أن هذه التحولات قد تدفع منظمة أوبك+ إلى مراجعة استراتيجياتها الإنتاجية في الاجتماعات المقبلة، خصوصًا أن انخفاض الطلب على النفط الروسي قد يغيّر ديناميكيات العرض في السوق العالمية.
روسيا في موقف صعب بين الخصومات والتحالفات
بالنسبة لروسيا، يمثل القرار الهندي انتكاسة واضحة في مساعيها لتأمين أسواق بديلة بعد فقدان السوق الأوروبية. فالهند كانت تشتري أكثر من 1.5 مليون برميل يوميًا من الخام الروسي منذ منتصف عام 2023، ما جعلها أكبر مستورد للنفط الروسي بعد الصين. الآن، ومع انخفاض هذه الكميات إلى النصف، ستواجه موسكو تحديات مالية جديدة في ظل استمرار العقوبات الغربية وتراجع الإيرادات من الطاقة.
كما أن خصومات الأسعار التي تقدمها روسيا لجذب المشترين تؤثر سلبًا على عائداتها، ما يزيد الضغط على ميزانيتها ويجبرها على توسيع التعاون مع الصين وإيران ودول أخرى ضمن محور بديل للنظام المالي الغربي.
في الوقت ذاته، تحاول موسكو الحفاظ على نفوذها الجيوسياسي من خلال استمرار دعمها لمشروعات الطاقة المشتركة مع الهند، بما في ذلك الاستثمارات في قطاع الغاز الطبيعي والأسمدة والطاقة النووية.
واشنطن تستثمر في “التحول الهندي”
بالنسبة للولايات المتحدة، يُعد نجاحها في إقناع الهند بتقليص اعتمادها على النفط الروسي مكسبًا دبلوماسيًا واقتصاديًا مهمًا. فالهند تعتبر ثالث أكبر مستورد للنفط في العالم، وأي تغيير في سلوكها الشرائي يمكن أن يؤثر بشكل مباشر على الأسواق الدولية وعلى قدرة روسيا على تمويل عملياتها العسكرية.
كما تسعى واشنطن إلى تشجيع الشركات الأميركية والعربية على زيادة صادراتها من النفط والغاز إلى الهند، في خطوة تهدف إلى تعزيز الروابط التجارية وتوفير بدائل موثوقة للطاقة بأسعار تنافسية.
وفي هذا السياق، تعمل إدارة الرئيس ترامب على إبرام اتفاقيات طاقة جديدة مع كل من السعودية والإمارات وقطر لضمان إمدادات مستقرة للأسواق الآسيوية، في إطار ما يُعرف بـ”محور الطاقة الأميركي-الآسيوي”.
انعكاسات القرار على الداخل الهندي
في الداخل، تواجه الحكومة الهندية تحديًا مزدوجًا يتمثل في الحفاظ على استقرار الأسعار للمستهلكين، وفي الوقت نفسه تلبية التزاماتها السياسية تجاه حلفائها الغربيين. فخفض واردات النفط الروسي، الذي كان يباع بأسعار مخفّضة، قد يؤدي إلى ارتفاع تكاليف الاستيراد، ما ينعكس على أسعار الوقود المحلية ويزيد الضغط على التضخم.
ورغم ذلك، تراهن نيودلهي على أن تنويع مصادر الإمداد سيقلل المخاطر على المدى الطويل، ويمنحها مرونة أكبر في التفاوض مع الموردين. كما تحاول الحكومة تعزيز الاعتماد على الطاقة المتجددة وزيادة إنتاجها المحلي من النفط والغاز لتقليل التعرض لصدمات الأسعار العالمية.
تحليل شامل
يُظهر هذا التطور أن النفط الروسي لم يعد ورقة اقتصادية فحسب، بل أصبح أداة جيوسياسية تتقاطع فيها مصالح واشنطن وموسكو ونيودلهي. القرار الهندي بخفض الواردات يعكس توازنًا دقيقًا بين المصالح الوطنية والضغوط الدولية، ويشير إلى مرحلة جديدة من إعادة ترتيب التحالفات في سوق الطاقة العالمية.
ومع دخول عام 2026، ستراقب الأسواق العالمية عن كثب مدى التزام الهند بتقليص مشترياتها من الخام الروسي، وكيف ستتعامل موسكو مع التحدي الجديد للحفاظ على حصتها السوقية في آسيا. فكل خطوة في هذا المسار سيكون لها أثر مباشر على أسعار النفط العالمية وعلى التوازنات السياسية بين الشرق والغرب.






















