الأسواق تتنفس من جديد… هل ينهض الاقتصاد العالمي أخيرًا من ظلال الشك؟
في مشهد لم نره منذ فترة طويلة، يتعافى الاقتصاد العالمي اليوم كما لو أنها وجدت نافذة للهواء النقي بعد شهور من الاختناق.
وول ستريت تقف على أعتاب قمم تاريخية جديدة، الدولار الأميركي يواصل الهبوط، الذهب يتراجع، وأسهم شركات التكنولوجيا تعود لتقود المسيرة نحو الأعلى.
لكن خلف هذه الأرقام التي تتصدر نشرات المال، هناك قصة أعمق…
قصة تحولات سياسية، وتغيّرات في المزاج الاقتصادي، وإرادة خفية من الشعوب والمؤسسات للخروج من سنوات من القلق، التضخم، والحروب التجارية.
فهل نحن نشهد يقظة جديدة في الاقتصاد العالمي اليوم؟ أم أن ما نراه ليس سوى استراحة قصيرة قبل العاصفة القادمة؟
عودة الزخم… ولكن على حذر
في نهاية شهر يونيو، بدأت مؤشرات الأسواق الأميركية تعكس اتجاهًا تصاعديًا واضحًا.
مؤشر “S&P 500” عاد للارتفاع بنحو 20% منذ قاع أبريل، واقترب من أعلى مستوياته التاريخية، فيما لامس “ناسداك” مستويات لم يصلها منذ عام 2021، مدفوعًا بطفرة جديدة في أسهم الذكاء الاصطناعي.
لكن المفارقة أن هذه القفزات لا تأتي في زمن الطمأنينة، بل في وسط حالة من الترقب والضبابية.
الرئيس دونالد ترامب يواصل الضغط على مجلس الاحتياطي الفيدرالي لتغيير مساره النقدي، وقد بدأ فعليًا في التلميح إلى تغيير رئيس الفيدرالي، جيروم باول.
والأسواق، كعادتها، بدأت تسعّر السياسة قبل أن تتحقق، فأصبحت أكثر تفاؤلًا بانخفاض قادم في أسعار الفائدة.
ومع هبوط الدولار إلى أدنى مستوياته في ثلاث سنوات، وجد المستثمرون فرصة لتوسيع مراكزهم، لا سيما أن أكثر من 40% من أرباح الشركات الأميركية تأتي من الخارج، ما يجعل ضعف الدولار خبرًا سعيدًا لميزانياتهم.
أميركا والصين… هدنة اقتصادية أم صفقة استراتيجية؟
في تطور مفاجئ، أعلن البيت الأبيض أنه توصّل إلى اتفاق مع الصين لتسريع تصدير المعادن النادرة إلى الولايات المتحدة.
ربما يبدو هذا الاتفاق فنيًا في ظاهره، لكنه سياسي بامتياز، ويبعث برسالة للعالم أن الحرب التجارية التي استنزفت الاقتصاد العالمي خلال الأعوام الماضية بدأت تذوب من الأطراف.
من جهة أخرى، اجتمع قادة الاتحاد الأوروبي في بروكسل لمناقشة مقترحات تجارية جديدة من واشنطن.
ألمانيا تدعو لإبرام اتفاق سريع، وفرنسا تُفضّل التريث، والنتيجة هي توازن هشّ بين طموحات اقتصادية ومخاوف من فقدان الهيبة الاستراتيجية.
لكن الأسواق الأوروبية احتفلت بهذا التحول، وقفزت مؤشرات البورصات مع الإعلان عن حزم تحفيز اقتصادي ألمانية ضخمة تهدف لدعم النمو والاستثمار حتى عام 2029.
في الخلفية… صراع خفي على من يملك القرار
يبدو واضحًا أن هناك تغيرًا جوهريًا في من يقود الاقتصاد العالمي اليوم.
لم تعد البنوك المركزية وحدها من تمسك بخيوط اللعبة، بل دخلت السياسة من أوسع أبوابها.
ترامب لا يخجل من مهاجمة باول علنًا، ولا من المطالبة بخفض الفائدة بـ3 نقاط مئوية دفعة واحدة.
كما صرح مؤخرًا أنه يدرس إعلان اسم بديل لرئيس الفيدرالي في سبتمبر أو أكتوبر، أي قبل انتهاء ولاية باول بفترة، وهو ما سيجعل الرئيس القادم ظلاً ثقيلًا على كل اجتماع قادم للفيدرالي.
مثل هذا التصرف يثير قلقًا عالميًا حول استقلالية القرار النقدي في أميركا.
لأن الفيدرالي ليس مجرد مؤسسة فنية… إنه صمام الأمان لاقتصاد يعتمد عليه العالم بأكمله.
وإذا شعر المستثمرون أن قراراته تُطبخ سياسيًا، فإن الثقة فيه تتآكل، ومعها تتآكل شرعية الأسواق نفسها.
الذكاء الاصطناعي يعود إلى الواجهة… لكن من المستفيد الحقيقي؟
أحد أهم محركات الصعود الأخير كان الأداء المذهل لشركات التكنولوجيا، وعلى رأسها “Nvidia”، التي سجّلت قفزات غير مسبوقة، و”Micron Technology”، التي أعلنت عن إيرادات تفوقت على التوقعات، مدفوعة بالطلب على شرائح الذكاء الاصطناعي.
لكن السؤال الإنساني هنا هو: من يستفيد من هذا الصعود؟
هل يشعر به الشباب الذين يواجهون بطالة مقنّعة؟
هل يصل أثره إلى العائلات التي تئن تحت ضغط التضخم؟
وهل التكنولوجيا قادرة فعلًا على حل مشاكلنا الاجتماعية، أم أنها مجرد فقاعة جديدة تُغذي أرباح المستثمرين الكبار وتترك البقية خلفها؟
الصين تتراجع… واليابان تنتعش
في المقابل، جاءت الأنباء من آسيا مختلطة.
الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، ما زالت تُعاني.
انخفضت أرباح الشركات الصناعية بنسبة 9.1% في مايو، وانعكس ذلك مباشرة في تراجع مؤشرات البورصة، ما يُشير إلى أن تعافي بكين لا يسير بالسرعة التي كان يأملها المستثمرون.
أما اليابان، فقد قدّمت وجهًا مختلفًا.
تباطؤ التضخم في طوكيو أعاد الثقة إلى المستهلكين، وقاد مؤشر نيكاي إلى ارتفاع قوي، خاصة بدعم من أسهم التكنولوجيا التي عادت لتقود السوق هناك أيضًا.
أزمة الضرائب الدولية: حرب جديدة في الخفاء؟
في الولايات المتحدة، دخل الجدل الضريبي مرحلة جديدة.
وزير الخزانة طالب بإلغاء مادة ضريبية مثيرة للجدل تهدد الاستثمارات الأجنبية في السوق الأميركية، والمعروفة بـ”الضريبة الانتقامية”.
الهدف المعلن هو تهدئة مخاوف المستثمرين الأجانب، وضمان التزام أميركا بالاتفاق الضريبي العالمي الجديد الذي أقره نادي السبع الكبار.
هذا الملف – رغم تقنيته – يحمل دلالة عميقة على أن الاقتصاد العالمي اليوم لم يعد لعبة داخلية لأي دولة.
كل خطوة، كل قانون، كل تصريح، ينعكس على الثقة، على الاستثمارات، وعلى قدرة النظام الاقتصادي العالمي على الاستمرار.
ما الذي تعنيه هذه التحولات للناس؟
في خضم هذه التحولات، يظل السؤال الإنساني قائمًا:
هل يشعر الناس في حياتهم اليومية أن هناك تعافيًا حقيقيًا؟
هل هدأت الأسعار؟
هل بات الحصول على وظيفة أسهل؟
هل اطمأن أصحاب المتاجر الصغيرة إلى مستقبلهم؟
الواقع أن الأسواق قد ترتفع، لكن هذا لا يعني أن القلق انتهى.
الأسواق تتحرك بتوقعات… لكن الحياة تُبنى على الحقائق.
وفي لحظة ما، سيتعيّن على هذه التوقعات أن تثبت نفسها أو تسقط.
النهاية المفتوحة: تفاؤل مؤقت أم بداية موجة جديدة من النمو؟
ربما ما نشهده الآن ليس إلا فصلًا جديدًا من لعبة الأسواق الكبرى.
ربما هي لحظة التقاط أنفاس، قبل العودة إلى معارك التضخم والديون والجيوسياسة.
وربما – فقط ربما – نكون أمام بداية صحوة اقتصادية فعلية، قادتها التكنولوجيا، وهدّأتها السياسة، ودعمتها الشعوب التي ما زالت تأمل في غدٍ أفضل.
لكن ما نعرفه الآن، أن الاقتصاد العالمي اليوم يقف على مفترق طرق.
والوجهة القادمة، لن تحددها البنوك المركزية فقط… بل ستُكتب عبر تفاعل السياسة، الأسواق، والناس.






















