أسعار النفط تتراجع وسط تقييم أثر العقوبات الغربية على الخام الروسي
تراجعت أسعار النفط في تعاملات اليوم الثلاثاء، بعد انحسار المخاوف الفورية المتعلقة بالإمدادات عقب استئناف عمليات التحميل في أحد أهم الموانئ الروسية المخصّصة لتصدير الخام. ويأتي هذا التراجع في وقت يواصل فيه المتعاملون في الأسواق العالمية تقييم الأثر الفعلي للعقوبات الغربية على الخام الروسي، وما إذا كانت هذه العقوبات قادرة على إحداث نقص مستدام في الإمدادات أو أنها ستدفع موسكو مجدداً للبحث عن قنوات التفاف جديدة كما حدث في جولات سابقة من القيود.
وسجّل خام برنت تراجعاً بنحو 0.46% ليجري تداوله حول 63.78 دولاراً للبرميل، في حين انخفض خام غرب تكساس الوسيط الأميركي بنحو 0.6% إلى 59.50 دولاراً للبرميل. ورغم أن التحركات تبدو محدودة نسبياً، فإنها تكشف عن حالة من الترقب والحذر في السوق، حيث يحاول المستثمرون الموازنة بين تهدئة المخاوف قصيرة الأجل على صعيد الإمدادات، وبين المخاطر المتصاعدة على المدى الطويل نتيجة تشديد العقوبات على قطاع الطاقة الروسي.
استئناف التحميل في نوفوروسيسك يخفف التوتر في سوق النفط
جاء التراجع في أسعار النفط مباشرة بعد تقارير أكدت استئناف عمليات التحميل في ميناء نوفوروسيسك الروسي، وهو أحد أبرز مراكز تصدير النفط في منطقة البحر الأسود. وكان الميناء قد أوقف التحميل لمدة يومين عقب هجوم أوكراني نفذته طائرات مسيّرة وصواريخ، ما دفع الأسعار للارتفاع بأكثر من 2% في نهاية الأسبوع مع تجدد المخاوف من تعطل الإمدادات الروسية.
وبحسب بيانات جمعتها شركة «إل إس إي جي» ومصادر في قطاع الطاقة، فقد عاد الميناء للعمل بوتيرة أسرع من المتوقع، ما ساهم في تهدئة المخاوف حول استمرار الانقطاع لفترة طويلة. كما أن محطة كونسورتيوم خط أنابيب بحر قزوين المجاورة، والتي تُعد مع نوفوروسيسك منفذاً لحوالي 2.2 مليون برميل يومياً من النفط، استأنفت هي الأخرى عملياتها، وهو ما يعني عملياً عودة قرابة 2% من الإمدادات العالمية إلى مسارها الطبيعي.
المحلل توني سيكامور في شركة «أي جي» أشار في مذكرة بحثية إلى أن خام النفط يتداول حالياً عند مستويات أدنى مع ورود تقارير عن استئناف عمليات التحميل بوتيرة أسرع مما كان يخشاه السوق، مؤكداً أن تراجع علاوة المخاطر الجيوسياسية المرتبطة بالميناء ساهم في «حذف» جزء من الارتفاع الأخير الذي سجّلته الأسعار.
العقوبات الغربية على الخام الروسي: ضغط تدريجي على الإيرادات
على الرغم من عودة الإمدادات من نوفوروسيسك، لا تزال الأنظار مركّزة على مسار العقوبات الغربية على النفط الروسي. فوزارة الخزانة الأميركية أكدت أن القيود المفروضة منذ أكتوبر على شركات كبرى مثل «روسنفط» و«لوك أويل» بدأت بالفعل في الضغط على عائدات موسكو من صادرات النفط، وأن التأثير من المرجح أن يتراكم تدريجياً مع مرور الوقت، عبر تقييد التمويل والتأمين والنقل البحري للخام الروسي.
وبحسب أبحاث صادرة عن «إيه إن زي»، فإن خام موسكو بدأ يتداول بخصم متزايد مقارنة بالمؤشرات القياسية مثل برنت، في إشارة إلى أن المشترين يطالبون بعلاوة مخاطر معاكسة، أي خصم في السعر، مقابل تحملهم مخاطر قانونية وتجارية محتملة. هذا الخصم يضغط على إيرادات الكرملين حتى لو استمر حجم الصادرات عند مستويات مرتفعة نسبياً.
وتشير هذه التطورات إلى أن التأثير الحالي للعقوبات ليس بالضرورة في شكل «انقطاع مفاجئ» للإمدادات، بل في صورة إعادة تسعير المخاطر على الخام الروسي، بما ينعكس خصماً في الأسعار وإيرادات أقل لموسكو، دون أن يعني ذلك أن السوق العالمية في طريقها إلى نقص حاد في المعروض على المدى القريب.
تراكم النفط على الناقلات ومخاوف السوق من خرق العقوبات
في هذا السياق، أوضح فيفيك دهار، استراتيجي السلع التعدينية والطاقة في «كومنولث بنك أستراليا»، أن المخاوف في السوق تتركز حالياً على مسألة تراكم النفط على الناقلات، في وقت يُعيد المشترون تقييم مخاطر خرق العقوبات الأميركية والغربية. فمع تشديد أنظمة الرقابة على الأسعار، وتوسيع نطاق العقوبات لتشمل شركات وسماسرة وأطرافاً وسيطة، أصبح قرار شراء الخام الروسي أكثر تعقيداً من الناحية القانونية والمالية.
دهار لفت إلى أن التاريخ القريب يثبت قدرة روسيا على التكيّف مع العقوبات عبر إعادة توجيه صادراتها إلى أسواق بديلة، وبناء ما يعرف بـ«أسطول الظل» من الناقلات المملوكة لشركات غير معلنة أو غير خاضعة بسهولة للعقوبات الغربية. ومن هذا المنطلق، يتوقع أن يكون أي تعطّل في الإمدادات بسبب العقوبات الأميركية مؤقتاً، مع احتمال أن تجد موسكو طرقاً جديدة لتجاوز القيود مرة أخرى.
لكن في المقابل، فإن تراكم الشحنات على الناقلات لفترات أطول، سواء في البحار أو الموانئ، يزيد من تكاليف التخزين والنقل ويخلق حالة من عدم اليقين في السوق، ما قد ينعكس على شكل تقلبات أكبر في الأسعار كلما ظهرت أخبار عن احتجاز ناقلة أو رفض شحنة أو توسيع نطاق العقوبات ليشمل شبكات جديدة من الوسطاء.
أسعار النفط بين ضغوط العقوبات والأساسيات الاقتصادية
التحركات الأخيرة في أسعار النفط أسعار النفط أسعار النفط أسعار النفط تعكس خليطاً معقداً من العوامل. فمن جهة، تسهم العقوبات الغربية والتهديدات الجيوسياسية في دعم الأسعار عبر إضافة «علاوة مخاطر» مرتبطة بإمكانية تعطل الإمدادات. ومن جهة أخرى، توجد عوامل اقتصادية أساسية تضغط في الاتجاه المعاكس، من بينها تباطؤ النمو في بعض الاقتصادات الكبرى، وارتفاع المخزونات في مناطق معينة، وعدم اليقين بشأن الطلب في المدى المتوسط في ظل التحول نحو الطاقة النظيفة.
كما أن سياسات «أوبك+» خلال الفترة الحالية تمثّل عاملاً حاسماً في موازنة السوق. فالتكتل يراقب عن كثب تطورات العقوبات على روسيا، باعتبارها لاعباً رئيسياً في التحالف، ويزن بعناية مقدار التخفيضات أو الزيادات التي يجب تنفيذها لتجنب هبوط الأسعار إلى مستويات تقل عن التوقعات المالية للدول المنتجة، وفي الوقت نفسه عدم دفع الأسعار إلى مستويات تؤدي إلى كبح الطلب العالمي.
في هذا الإطار، يمكن القول إن السوق باتت أكثر حساسية للأخبار اليومية، سواء تعلق الأمر بتطورات ميدانية في البحر الأسود، أو تسريبات عن تغييرات في العقوبات، أو بيانات اقتصادية من الولايات المتحدة والصين وأوروبا. وهذه الحساسية تجعل أي مفاجأة، ولو محدودة، قادرة على دفع النفط للصعود أو الهبوط بعدة دولارات في وقت قصير.
البعد السياسي: تشريع عقوبات جديدة وتوسيع دائرة الضغط
إلى جانب العقوبات التنفيذية القائمة بالفعل، يزداد البعد السياسي حضوراً في ملف النفط الروسي. فقد صرّح مسؤول كبير في البيت الأبيض بأن الرئيس الأميركي دونالد ترامب مستعد لتوقيع تشريع عقوبات إضافية على روسيا، شرط أن يحتفظ بالسلطة النهائية على كيفية تطبيق هذه العقوبات وتوقيتها. ويعني ذلك أن الإدارة الأميركية ترغب في امتلاك «أداة ضغط مرنة» يمكن استخدامها تكتيكياً في التفاوض أو الرد على التطورات الميدانية.
ترامب أشار أيضاً إلى أن الجمهوريين يعملون على صياغة مشروع قانون يفرض عقوبات على أي دولة تتعامل مع روسيا، وهو ما يوسع نطاق الاستهداف من الشركات والكيانات الروسية إلى شبكة أوسع من الدول والمشترين المحتملين. كما ألمح إلى أن إيران قد تُدرج ضمن هذه المنظومة الأشد من العقوبات، الأمر الذي يضيف طبقة جديدة من عدم اليقين على خارطة الإمدادات العالمية.
في حال تم تمرير مثل هذا التشريع، فإن المخاطر القانونية التي تواجه المشترين ستزداد، وربما يتراجع عدد الدول المستعدة لشراء الخام الروسي بشكل علني، ما قد يعمّق الخصومات السعرية على هذا الخام، لكن من دون أن يضمن بالضرورة تراجعاً فورياً في أحجام الصادرات، نظراً لوجود قنوات غير رسمية قد تُستخدم لاستمرار التدفقات.
هل تقود العقوبات إلى ارتفاع دائم في أسعار النفط؟
السؤال الرئيسي الذي يشغل المستثمرين اليوم هو ما إذا كانت العقوبات الغربية على النفط الروسي ستقود إلى موجة جديدة من ارتفاع الأسعار بشكل دائم، أم أن تأثيرها سيبقى ضمن نطاق التقلبات المؤقتة. حتى الآن، تشير الصورة إلى مزيج من الاثنين: ضغط تدريجي على الإيرادات الروسية، وتذبذب في الأسعار مع كل جولة جديدة من القيود أو الهجمات، لكن من دون حدوث صدمة هيكلية في المعروض العالمي.
السبب في ذلك يعود إلى قدرة السوق على التكيّف. فالمشترون في آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا قد يواصلون استيعاب جزء كبير من الخام الروسي، خاصة إذا تم تقديمه بخصومات مغرية. كما أن الدول المستهلكة الكبرى تستفيد من تنويع مصادرها بين الشرق الأوسط والولايات المتحدة وأميركا اللاتينية وأفريقيا، ما يقلل اعتمادها على مصدر واحد فقط.
في الوقت نفسه، تبقى المخاطر الصعودية قائمة، خصوصاً إذا تزامنت تشديدات جديدة للعقوبات مع تعطّل غير متوقع في إنتاج أو صادرات دول أخرى، سواء بسبب اضطرابات سياسية أو كوارث طبيعية أو مشكلات فنية. عندها يمكن أن تتحول «علاوة المخاطر» إلى ارتفاع حاد في الأسعار، خصوصاً إذا تزامن ذلك مع تحسن في الطلب العالمي.
آفاق سوق النفط في المدى القريب
على المدى القصير، من المرجح أن تستمر أسعار النفط في التحرك ضمن نطاقات متذبذبة، حيث يوازن المستثمرون بين عودة الإمدادات من نوفوروسيسك ومخاطر العقوبات. فإذا استمرت عمليات التصدير الروسية دون انقطاع كبير، وظلت البيانات الاقتصادية العالمية تشير إلى نمو معتدل، فقد تبقى الأسعار حول مستوياتها الحالية مع ميل طفيف للصعود أو الهبوط تبعاً للأخبار اليومية.
في المقابل، أي إشارات على توسع نطاق العقوبات، أو تزايد عمليات احتجاز الناقلات، أو عودة التوترات العسكرية في مناطق الإنتاج والنقل، قد تدفع المتعاملين إلى إعادة تسعير المخاطر بسرعة، ما يساعد على دفع أسعار النفط أسعار النفط أسعار النفط أسعار النفط أسعار النفط نحو مستويات أعلى. كما أن قرارات «أوبك+» المقبلة ستكون عاملاً حاسماً، إذ يمكن لأي خفض مفاجئ للإنتاج أن يضيف دعماً قوياً للأسعار إذا جاء في توقيت تتصاعد فيه المخاوف الجيوسياسية.
في النهاية، يعكس المشهد الحالي حالة سوق تعيش تحت تأثير متزامن لعوامل اقتصادية وجيوسياسية وتشريعية. وبينما قد تمنح الخصومات على الخام الروسي بعض الراحة للمستهلكين في دول معينة، فإن استمرار التوتر قد يُبقي التقلب سمة أساسية في سوق الطاقة العالمية خلال الأشهر المقبلة، مع بقاء النفط في قلب التجاذبات بين القوى الكبرى، وسياسات العقوبات، ومصالح المنتجين والمستهلكين على حد سواء.




















