أسباب انهيار العملات المشفرة بعد اشتعال الحرب التجارية مجدداً بين الصين وأميركا
ومع تصاعد التصريحات النارية، انتقلت موجة القلق إلى الأسواق المالية كافة، حيث شهدت الأسهم التكنولوجية عمليات بيع مكثفة، وتراجعت المؤشرات الأميركية الرئيسية، بينما اتجه المستثمرون نحو الملاذات الآمنة مثل الذهب والفضة اللذين يواصلان التداول عند مستويات قياسية.
موجة بيع عارمة في الأصول عالية المخاطر
تزامن انهيار العملات المشفرة مع تراجع حاد في مؤشر ناسداك كومبوزيت بنسبة تجاوزت 3.5%، وهي أكبر خسارة يومية منذ أبريل الماضي. ومع هبوط أسهم شركات التكنولوجيا، بدأت عمليات تصفية جماعية في أصول المخاطر المرتفعة، وفي مقدمتها العملات الرقمية. فقد تراجعت البتكوين بنسبة قاربت 15% لتصل إلى نحو 104,600 دولار، بعد أن كانت تتداول قرب 122,500 دولار في بداية الجلسة، فيما هوت الإيثيريوم بنسبة 21%.
وامتدت الموجة إلى ما يُعرف بـ «العملات الساخرة» أو ميم كوينز التي شهدت انخفاضات قاسية بعد اندفاع المستثمرين لإغلاق مراكزهم تجنبًا لمزيد من الخسائر. في الوقت ذاته، تحولت السيولة سريعًا إلى السندات الحكومية الأميركية وصناديق الذهب، مما زاد الضغط على سوق الكريبتو المتقلبة بطبيعتها.
تصفية مراكز مالية بقيمة 19 مليار دولار
بحسب بيانات CoinGlass، تسبب الانهيار في تصفية مراكز مالية قياسية بلغت قيمتها نحو 19 مليار دولار، وهو ما يعدّ من أكبر موجات التصفية اليومية في تاريخ سوق العملات المشفرة. كما تشير بيانات The Kobeissi Letter إلى أن نحو 1.6 مليون متداول خسروا مراكزهم خلال 24 ساعة فقط، في مشهد أعاد للأذهان الانهيار الكارثي لمنصة FTX في عام 2022.
يُعزى هذا الحجم الضخم من الخسائر إلى استخدام الرافعة المالية العالية في التداول. إذ يلجأ العديد من المتداولين إلى فتح مراكز تفوق حجم محافظهم الفعلية اعتمادًا على القروض أو المارجن، ما يجعلهم عرضة للتصفية التلقائية بمجرد تحرك الأسعار بشكل معاكس. ومع اشتداد الهبوط، فعّلت المنصات أنظمة تصفية تلقائية متتالية، مما أدى إلى دوامة بيع ضخمة عمّقت الخسائر على نطاق واسع.
لماذا تفاعلت العملات المشفرة بهذه الحدة؟
يُصنّف سوق العملات الرقمية ضمن فئة الأصول عالية المخاطر التي تعتمد بشكل كبير على شهية المستثمرين للمخاطرة. ومع تجدد الحرب التجارية، دخلت الأسواق العالمية في وضع “الهروب من المخاطر” (Risk-Off)، ما دفع المستثمرين للتخلص من الأصول غير الآمنة. وتاريخيًا، تشهد فترات التوتر السياسي أو الجيوسياسي عمليات بيع مشابهة في العملات المشفرة.
كما لعبت العوامل النفسية والمضاربية دورًا كبيرًا في تفاقم الأزمة، فالسوق ما تزال تهيمن عليها المضاربات قصيرة الأمد وليس الاستثمار المؤسسي طويل الأجل. وبمجرد أن بدأت الأسعار بالانخفاض، انتقلت العدوى سريعًا بين المتداولين عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية، فاشتعلت موجة ذعر جماعية دفعت الملايين إلى البيع بأي سعر.
تأثير الدولار والعوائد الأميركية
في الوقت الذي كانت فيه العملات المشفرة تتهاوى، ارتفع الدولار الأميركي مدفوعًا بتزايد الطلب على الأمان، كما صعدت عوائد السندات الأميركية قصيرة الأجل. هذا التوجه جعل الأصول غير المدرة للعائد مثل البتكوين أقل جاذبية. علاوة على ذلك، فإن ارتفاع الدولار يعني ضمنيًا زيادة تكلفة الاحتفاظ بالأصول المقومة به، مما يضغط على أسعارها.
يقول محللون إن المستثمرين عادة ما يستخدمون البتكوين كتحوط من التضخم أو ضعف العملة الأميركية، ولكن في أوقات الاضطراب المالي والسياسي، يتحول الدولار نفسه إلى ملاذ مفضل، فتتراجع جاذبية العملات الرقمية رغم طبيعتها البديلة.
التشدد الصيني يعمّق الأزمة
على الجانب الآخر، أعاد التصعيد الأميركي ضد الصين إلى الأذهان سياسات بكين السابقة تجاه العملات المشفرة، بما في ذلك حظر التعدين والتداول. ومع تجدد الصراع التجاري، يخشى المستثمرون من أن تعود الحكومة الصينية لتشديد القيود أكثر على نشاط التعدين أو التعاملات الرقمية بحجة “حماية الأمن الاقتصادي”، مما يثير موجة مخاوف إضافية في الأسواق.
وكانت الصين قد أغلقت في السنوات الماضية آلاف مزارع التعدين وفرضت عقوبات على منصات تداول غير مرخّصة، الأمر الذي جعلها خارج منظومة الكريبتو العالمية تقريبًا. لكن استمرار التوتر مع واشنطن قد يعيد هذه الإجراءات إلى الواجهة ويزيد من الضغوط على السوق.
تقلّبات السيولة العالمية تضرب الكريبتو
من الأسباب الجوهرية وراء الانهيار أيضًا تحولات السيولة العالمية. فمع ارتفاع حالة عدم اليقين، تلجأ المؤسسات المالية الكبرى إلى تحويل استثماراتها من الأصول عالية التقلب إلى أدوات الدخل الثابت أو النقد. وقد تزامن ذلك مع سحب السيولة من الصناديق المتخصصة في الأصول الرقمية، ما جعل السوق يواجه نقصًا حادًا في الطلب مقابل عرض كبير.
وفي ضوء التوترات التجارية، اتجهت الصناديق الاستثمارية إلى إعادة هيكلة محافظها لتقليل المخاطر، فتم بيع أجزاء كبيرة من ممتلكاتها في العملات المشفرة، خاصة في الصناديق المرتبطة بمشروعات الذكاء الاصطناعي والبلوكتشين التي كانت قد استفادت سابقًا من موجة استثمارات ضخمة في عام 2024.
الذهب يستفيد كملاذ آمن
في المقابل، واصلت أسعار الذهب صعودها لتتجاوز 4,000 دولار للأوقية، مسجلة مستويات قياسية جديدة. هذا الصعود يعكس انتقال السيولة من الكريبتو إلى المعادن النفيسة، وهو اتجاه طبيعي في أوقات التوتر الجيوسياسي.
ويشير محللون إلى أن العلاقة العكسية بين الذهب والعملات المشفرة تزداد وضوحًا في مثل هذه الأزمات، إذ يهرب المستثمرون من التقلب الرقمي إلى الأمان المادي.
انعكاسات أوسع على السوق
لم يقتصر التأثير على العملات المشفرة فقط، بل شمل أيضًا شركات التعدين الرقمي مثل Marathon Digital وRiot Platforms التي شهدت تراجعًا حادًا في أسهمها تجاوز 20%. كما تراجعت أسهم الشركات المرتبطة بتقنية البلوكتشين في مؤشرات «ناسداك» و«ستاندرد آند بورز».
ويرى خبراء أن مثل هذه الأحداث تكشف هشاشة البنية المالية لقطاع الكريبتو رغم التقدم الكبير في التنظيم خلال السنوات الأخيرة. فغياب جهة مركزية وارتباط التداولات بالمنصات الممولة بالديون يجعل السوق عرضة لانهيارات سريعة بمجرد فقدان الثقة أو السيولة.
تعافٍ جزئي ولكن هش
بعد الهبوط الحاد، شهدت العملات المشفرة ارتدادًا تقنيًا محدودًا، إذ استعادت البتكوين جزءًا من خسائرها لتتداول فوق 110,000 دولار، إلا أن هذا التعافي لم يستند إلى عوامل أساسية قوية، بل جاء نتيجة إغلاق مراكز البيع على المكشوف (Short Covering).
ويرى محللون أن السوق سيظل هشًا خلال الأسابيع المقبلة طالما استمرت الحرب التجارية، خاصة إذا مضت واشنطن في تنفيذ تهديداتها الجمركية مطلع نوفمبر.
العامل النفسي ودور الإعلام
لعبت وسائل الإعلام ومنصات التواصل دورًا مضاعفًا في تضخيم الخسائر. فمع انتشار الأخبار حول “الانهيار التاريخي” و“تصفية مليارية”، تسارعت عمليات البيع خوفًا من مزيد من التراجعات.
ويشير خبراء سلوك الأسواق إلى أن الخوف الجماعي كان أقوى من التحليل المنطقي، وهو ما حول تراجعًا طبيعياً إلى أزمة آنية.
العملات المشفرة لا تزال تفتقر إلى العمق المؤسسي، ما يجعلها أكثر تأثرًا بعوامل الذعر والإشاعات مقارنة بالأسواق التقليدية.
مستقبل العملات المشفرة بعد الأزمة
رغم الانهيار الأخير، يرى بعض المحللين أن العملات المشفرة لن تختفي من المشهد المالي العالمي، لكنها بحاجة إلى مرحلة “نضوج مؤسسي” أكبر، تتضمن تعزيز الضوابط التنظيمية وإدماجها في الأنظمة المالية الرسمية.
كما أن تطور البنى التحتية مثل محافظ الحفظ المؤمنة، والتوسع في استخدام العملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDCs)، سيعيد تشكيل السوق خلال السنوات المقبلة.
ومع ذلك، فإن الأحداث الأخيرة تُعدّ جرس إنذار جديدًا للمستثمرين بضرورة إدارة المخاطر بعناية، وتجنب المراكز الممولة بالديون المفرطة. فالأسواق الرقمية قد توفر عوائد عالية، لكنها أيضًا تحمل احتمالات خسائر سريعة تفوق التوقعات.
إن انهيار العملات المشفرة الأخير ليس حادثًا منفصلًا، بل نتيجة مباشرة لتشابك السياسة بالتجارة والمال. فكلما تصاعدت التوترات بين الصين وأميركا، عادت الأسواق إلى حالة الخوف والابتعاد عن الأصول عالية التقلب.
ومع استمرار الحرب التجارية، يُتوقع أن تبقى تقلبات الكريبتو مرتفعة، وأن يظل المستثمرون حذرين في دخول السوق حتى تتضح ملامح السياسة الاقتصادية الأميركية خلال الفترة المقبلة.
يبقى السؤال: هل سيكون هذا الانهيار بداية دورة تصحيحية طويلة، أم مجرد زوبعة عابرة في سوق اعتاد على المفاجآت؟
الأسابيع القادمة وحدها كفيلة بالإجابة، لكن المؤكد أن العملات المشفرة لا تزال تعيش على حافة الخطر بين الطموح التكنولوجي والمخاطر السياسية.






















