التعدين في الأمازون.. من الفؤوس إلى الذكاء الاصطناعي: مفترق طرق بين الماضي والمستقبل
في قلب غابات الأمازون الشاسعة، التي لطالما اعتُبرت رئة الكوكب، تتقاطع اليوم قصة قديمة بملامح جديدة: التعدين في الأمازون. فبينما يستعيد كبار السن ذكريات الحفر اليدوي والسباق نحو الذهب في منجم “سيرا بيلادا” الشهير في ثمانينيات القرن الماضي، تسعى شركات التعدين العملاقة، مثل شركة Vale البرازيلية، إلى بناء نموذج مستقبلي قائم على الذكاء الاصطناعي والاستدامة في منجم “كاراجاس”، أحد أكبر مناجم الحديد في العالم.
منجم سيرا بيلادا.. الذهب الذي صنع أسطورة البرازيل
تبدأ الحكاية من بلدة صغيرة تُدعى “كورينوبوليس” في ولاية بارا البرازيلية، حيث كان منجم سيرا بيلادا في ثمانينيات القرن الماضي بمثابة حلم قومي لكل من أراد الثراء السريع. عشرات الآلاف من العمال توافدوا من أنحاء البلاد ليحفروا بأيديهم جبال الأمازون بحثًا عن المعدن الأصفر الذي غيّر ملامح المنطقة وأصبح رمزًا للثروة والجنون الإنساني.
صور المصور العالمي سباستياو سالغادو وثّقت تلك الحقبة التاريخية، حيث كان المشهد أقرب إلى لوحة من العصور الوسطى: آلاف الرجال المتراصين في حفرة هائلة، يحملون الصخور والوحل بأيديهم العارية، مدفوعين بالأمل والعرق، وبصوت الطبول الذي يعلن كل غرام من الذهب المستخرج.
لكن كما صعدت الأسطورة بسرعة، انهارت سريعًا. فعندما تضاءلت جودة الخام وغمرت المياه الحفرة في عام 1992، أُغلقت العمليات رسميًا. ومع ذلك، لا يزال كثير من “الغاريمبيروس” – وهم عمال التعدين التقليديون – يعيشون في محيط الموقع، متمسكين بحلم قديم بأن الأمازون لا يزال يخفي ذهبًا لم يُكتشف بعد.
كاراجاس.. التكنولوجيا تقود التعدين الحديث
بعد ساعتين بالسيارة من “سيرا بيلادا”، تقف اليوم “كاراجاس” كرمز لعصر جديد من التعدين في الأمازون، حيث تُشغّل شركة Vale أكبر منجم مفتوح للحديد الخام في العالم. وهنا، لا وجود للفؤوس أو العمال الملطخين بالطين؛ بل سيارات ذاتية القيادة، وأنظمة مراقبة رقمية، وخطط استثمارية طموحة بقيمة 70 مليار ريال برازيلي (نحو 13 مليار دولار) خلال الفترة بين 2025 و2030.
تقول الشركة إن الشاحنات المستقلة تُساهم في رفع كفاءة العمليات بنسبة تصل إلى 15%، وتقلل الحوادث والانبعاثات، ما يجعل منجم كاراجاس نموذجًا عالميًا في “التعدين الذكي”.
بين التنمية والبيئة: تحدٍ مزدوج
غير أن التحول نحو التعدين عالي التقنية لا يخلو من الجدل. ففي حين تَعِد Vale بحماية نحو 800 ألف هكتار من الغابات – أي ما يعادل خمسة أضعاف مساحة مدينة ساو باولو – تواصل أنشطة التعدين غير القانونية تهديد الأنهار، وتسميم البيئة بالزئبق، وتدمير الموائل الطبيعية في مناطق شاسعة من الأمازون.
الاختلاف بين الجانبين صارخ: فبينما تتحرك Vale على قضبان السكك الحديدية الحديثة لنقل الخام إلى الموانئ، يسلك الغاريمبيروس طرقًا طينية ونهرية محفوفة بالمخاطر، حيث تغيب الرقابة وتغلب الفوضى.
الذهب والحديد.. وجهان لعملة الاقتصاد البرازيلي
وفقًا لتقديرات اقتصادية، تفوق إيرادات Vale من منجم كاراجاس تسعة أضعاف إجمالي ما استُخرج من سيرا بيلادا خلال تاريخه بأكمله، حتى بعد احتساب أسعار الذهب القياسية الحالية. هذا الفارق الهائل يعكس التحول في نموذج التعدين البرازيلي من الحرفية الفردية إلى الإنتاج الصناعي عالي الكفاءة.
لكن هذه الطفرة التقنية تطرح سؤالًا مهمًا: كيف يمكن للبرازيل أن توازن بين الطموح الاقتصادي والحفاظ على البيئة، خاصة وأنها ستستضيف مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ COP30 في مدينة “بيليم” بولاية بارا عام 2026؟
بارا.. من منجم إلى منصة عالمية للمناخ
تستعد ولاية بارا، التي تضم كلًا من سيرا بيلادا وكاراجاس، لأن تكون في واجهة العالم خلال COP30. وهذا الحدث يمثل فرصة ذهبية للبرازيل لإظهار قدرتها على قيادة تحول عالمي نحو التعدين الأخضر والمسؤول. فمن جهة، تمتلك الدولة احتياطيات ضخمة من المعادن الحيوية الضرورية للانتقال الطاقي، مثل النيكل والنحاس والحديد، ومن جهة أخرى، تواجه ضغوطًا دولية متزايدة لحماية غابات الأمازون التي تمتص ملايين الأطنان من الكربون سنويًا.
ويُتوقع أن تُركّز النقاشات خلال المؤتمر على آليات تمويل “التحول المستدام” في قطاع التعدين، عبر استخدام التقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات الضخمة، والطاقة النظيفة في استخراج ومعالجة الموارد الطبيعية.
الذكاء الاصطناعي والتعدين الأخضر: مستقبل الأمازون
يرى خبراء الاقتصاد أن إدماج الذكاء الاصطناعي في التعدين في الأمازون ليس رفاهية تقنية، بل ضرورة استراتيجية. فالأنظمة الذكية يمكنها تقليل استهلاك المياه والطاقة، وتحديد مواقع الاستخراج بدقة أكبر لتقليل الأثر البيئي. كما يمكن للذكاء الاصطناعي مراقبة الامتثال البيئي في الوقت الفعلي، وتحليل صور الأقمار الصناعية لكشف أنشطة التعدين غير القانونية.
هذه التقنيات، إذا طُبقت بشكل موسّع، قد تُحوّل منطقة الأمازون من رمز للاستنزاف البيئي إلى مختبر عالمي للتنمية المستدامة. فالبرازيل تمتلك الكفاءات الهندسية والبحثية اللازمة، بالإضافة إلى دعم مؤسسات دولية تبحث عن قصص نجاح حقيقية في مجال المناخ والاقتصاد الأخضر.
من الحلم إلى الواقع
لكن ما زال أمام هذا التحول طريق طويل. ففي عمق الغابة، ما زال عمال مثل “أنطونيو لويس” و”سيسيرو ريبيرو” يحفرون الأرض بأيديهم، مدفوعين بالأمل ذاته الذي غذّى اندفاع الذهب قبل أربعة عقود. يقول أحدهم: “لم نستيقظ من هذا الحلم بعد”.
هذا التناقض بين الماضي والمستقبل يُجسد المعركة الأوسع التي تخوضها البرازيل: كيف يمكن أن تستفيد من ثرواتها الطبيعية دون أن تفقد روح الأمازون؟ وكيف يمكن أن توفق بين اقتصاد المعادن واقتصاد الحياة؟
خاتمة تحليلية
بين “سيرا بيلادا” و”كاراجاس”، وبين الفؤوس والشاحنات ذاتية القيادة، يكتب التعدين في الأمازون فصلًا جديدًا في تاريخ التنمية البرازيلية. فبينما يحمل الماضي ذكريات العرق والمغامرة، يحمل المستقبل وعودًا بالذكاء الصناعي والكفاءة البيئية. وفي عالم يتسابق نحو الحياد الكربوني، قد تصبح ولاية بارا البرازيلية المثال الأوضح على أن الطريق إلى النمو لا يمر عبر استنزاف الأرض، بل عبر التعايش معها.
ومع اقتراب مؤتمر COP30، ستجد البرازيل نفسها أمام اختبار عالمي: هل تنجح في تحويل نموذجها التعدين إلى نموذج أخضر قائم على الابتكار والمسؤولية؟ أم سيبقى “ذهب الأمازون” عنوانًا لتاريخ يعيد نفسه؟
ما هو منجم سيرا بيلادا ولماذا يُعد أسطوريًا في البرازيل؟
هو منجم ذهب يقع في ولاية بارا شهد اندفاعًا هائلًا في ثمانينيات القرن الماضي، جذب آلاف العمال الذين حفروا بأيديهم في واحدة من أكبر حُمّى الذهب في تاريخ أمريكا اللاتينية.
ما الدور الذي تلعبه شركة Vale في التعدين الحديث بالأمازون؟
تدير Vale منجم كاراجاس، أكبر منجم للحديد الخام في العالم، وتستخدم فيه تقنيات الذكاء الاصطناعي والشاحنات ذاتية القيادة لزيادة الكفاءة وتقليل الأثر البيئي.
كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساهم في التعدين الأخضر؟
يساعد الذكاء الاصطناعي في تحسين استهلاك الموارد، وتقليل النفايات والانبعاثات، ورصد الأنشطة غير القانونية عبر تحليل البيانات والصور الفضائية.






















